«الشعب المصرى متدين بطبعه».. مقولة شهيرة ترددت على مسامعنا كثيرًا متجاهلة واقعًا أصبح ملموسًا في الفترة الأخيرة، حول التغير الكبير الذي يشهده المجتمع خاصة في السنوات الأخيرة عقب ثورة 25 يناير، فالتدين أصبح ظاهريًا، وعدد كبير من الشباب تأثر بظاهرة الإلحاد التي انتشرت بينهم كالنار في الهشيم، وتحولت إلى «موضة» يتبعها الجيل الجديد، ولم يقتصر الأمر على فكرة اعتناق هذا الفكر بل امتدت إلى الجهر به، وتعالت الأصوات المنادية باتباعه بل السعى حثيثًا لنشره بين الجموع، وتحولت مصر التي أنجبت الشيخ محمد عبده والشيخ الشعراوى ويزين أرضها الجامع الأزهر الشريف منارة العلوم الإسلامية إلى واحدة من أبرز الدول العربية التي تعانى فيروس «الإلحاد».
يشير مفهوم الإلحاد في اللغة العربية إلى الميل عن الطريق، ويستند إلى فكرة إنكار أو غياب الإيمان بوجود خالق أعظم، ويوصف بالإلحاد بأنه اتجاه فكرى يرفض فكرة الإيمان بإله، وهناك من الملحدين من لا ينكر وجود إله لكن يرفض الإيمان به، وهناك من ينكر وجوده قطعيًا، ويرتبط بالإلحاد مصطلحات أخرى مثل «اللادينية» وهو اتجاه فكرى رافض للأديان، ومعتنقو هذا الفكر يؤمنون ببشرية الأديان ومنهم من يؤمن بوجود إله ومنهم من ينكر وجوده، أما « اللاأدرية» فهى توجه فلسفى يأتى اسمه من كلمة «لا أدرى» ويشير إلى غموض القضايا الدينية والغيبية وصعوبة تحديدها في حياة الإنسان، ومعتنقو هذا التوجه لا يؤكدون أو ينفون وجود الإله، وبالرغم من تنوع المستويات الثقافية والاجتماعية والفكرية للملحدين إلا أن عددا كبيرا منهم يستند إلى نظرية التطور لداروين كأساس مذهبهم الفكرى، كما ينشغل عدد كبير منهم بسب الأديان الأخرى مع الترويج لأحاديث نبوية ضعيفة أو مختلقة، والتشكيك في القرآن والسنة.
أسباب انتشاره
تعددت الأقاويل حول أسباب انتشار هذا الوباء بين المصريين خاصة شريحة الشباب، لذا قام مرصد الفتاوى التكفيرية التابع لدار الإفتاء المصرية بإعداد تقرير لتوضيح أبرز الأسباب التي أدت لتزايد هذه الظاهرة، ولقد ذكر التقرير أن نسبة الملحدين قد شهدت زيادة في الدول الإسلامية التي مرت بتغيرات سياسية واجتماعية في السنوات الأخيرة.
وأوضح أن أبرز أسباب انتشار الإلحاد هو تشويه الجماعات الإرهابية لصورة الإسلام من خلال تطبيق مفهوم خاطئ للدين عن طريق العنف والقتل وانتهاك حقوق الإنسان، مما أدى إلى ترسيخ صورة وحشية قاتمة للدين، ونفور الشباب من الإسلام ودفعهم للإلحاد، كما أن الخطاب الدينى المغلوط الذي تقدمه التيارات الإسلامية المتشددة كان سببًا رئيسيًا لانتشار هذه الظاهرة، فضلا من الخطاب الدينى العاجز الذي تقدمه المؤسسة الدينية الرسمية كما أن استضافة وسائل الإعلام لغير المؤهلين وغير المتخصصين في البرامج الدينية أدت إلى تفاقم الأزمة خاصة في ظل اتباع أساليب غير سليمة في تقديم المعلومة الدينية مما ساعد على حدوث بلبلة في الأفكار واختلال في المفاهيم، ولم يقتصر الإلحاد على أتباع الدين الإسلامى بل تغلغل أيضا في عقول عدد من شباب الأقباط الذين يرون في الإلحاد سبيلًا للهرب من تعاليم الكنيسة، خاصة أنه يحقق الهدف من إتمام الطلاق والزواج مرة ثانية دون اللجوء إلى طريق اعتناق الإسلام المحفوف بالمخاطر.
تتعدد منابر نشر الإلحاد في مصر، وتُعد مواقع التواصل الاجتماعى أحد أهم هذه المنابر التي وفرت مساحات كبيرة من الحرية للشباب من أجل التعبير عن آرائهم ووجهات نظرهم وهو ما ساهم في نشر أفكار مغلوطة ومفاهيم خاطئة حول الدين، وقد ظهرت على موقع التواصل الإجتماعى فيس بوك مئات الصفحات التي تدعم هذا الفكر وتتبنى نشره، منها صفحة «ملحدون» الذي وصل عدد أعضائها إلى 7.295، وصفحة «أنا ملحد» وأعضائها 5.423، وصفحة مقهى الملحدين العرب ذات الـ 5.561 أعضاء.
وصفحة قناة الملحدين بالعربى التي وصلت إلى 5.530 أعضاء، وكلها من الصفحات النشطة حتى الآن، فضلا عن انتشار حسابات شخصية لأشخاص يفخرون بإلحادهم، كما يُعد موقع تويتر منبرًا مهمًا من منابر نشر هذا الفكر، وكذلك الحال بالنسبة إلى موقع «يوتيوب» الذي يبث من خلاله الملحدين فيديوهات تدعم أفكارهم، أما على أرض الواقع فإن منطقة وسط القاهرة هي أهم وأبرز منطقة لتجمع الملحدين، ومقاهى «وسط البلد» كانت هي مركز لمناقشة أفكارهم واتجاهاتهم الثقافية المختلفة قبل التضييق عليهم مؤخرًا من قبل قوات الأمن بعد اكتشاف أماكن تجمعاتهم، وجهر عدد منهم بهويته على الهواء مباشرة في وسائل الإعلام المرئية مؤخرًا دون خوف من رد فعل المجتمع وذلك من خلال مناظرات تم عقدها بين عدد من الشيوخ ومجموعة من الملحدين وهو ما قوبل بحالة سخط بين المشاهدين.
دراسات وإحصائيات
وبالرغم من خطورة قضية الإلحاد، إلا أنه لا توجد دراسة أو إحصائية رسمية مصرية توضح العدد الحقيقى للملحدين على أرض الكنانة حتى الآن، وقد استعانت دار الإفتاء بمؤشرات مركز «ريد سي» التابع لمعهد «جلوبال» لتوضيح عدد الملحدين في مصر والذي وصل وفقًا لمؤشراتهم إلى 866 ملحدًا، ورغم أن الرقم ليس كبيرًا إلا أنه الأعلى بين الدول العربية.
رد فعل الدولة والمؤسسات الدينية
ولذلك ظلت الدولة ومؤسساتها الدينية في رفض دائم للاعتراف بوجود ظاهرة الإلحاد بين الشباب، لكن مؤخرًا بدأت هذه الأصوات الرافضة في الخفوت وتعالت الأصوات المعلنة لضرورة التصدى لهذه الظاهرة، حيث أعلن الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، أن الإلحاد أحد أهم التحديات التي تواجه المجتمع المصرى حاليا، بينما وصفه الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، بأنه الخطر الثانى بعد الإرهاب خاصة أنه يُدار بواسطة أياد خفية عبر مواقع التواصل الإلكتروني، بهدف زعزعة أمن واستقرار المجتمعات العربية، فيما أكد الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتى الجمهورية، أن الإلحاد في العالم العربى والإسلامى لا يمكن وصفه بالظاهرة لعدم وجود إحصائيات دقيقة بالرغم من خطورته، أما عن الكنيسة فقد قررت مواجهة هذه الظاهرة عن طريق عقد عدة مؤتمرات للشباب لمناقشة هذه القضية، ولم تقتصر محاولات مواجهة هذه الظاهرة على المؤسسات الدينية فقط بل اهتمت بها الدولة ككل حيث قامت وزارة الأوقاف بمشاركة وزارة الشباب والرياضة بإطلاق حملة قومية لمكافحة ظاهرة انتشار الإلحاد بين الشباب، والاستعانة بعدد من علماء النفس والاجتماع والسياسة والأطباء النفسيين.
العلاج
من جانبه أكد الدكتور سالم عبد الجليل، وكيل الأوقاف السابق، أن الإلحاد قديم قدم البشرية على هذه الأرض مضيفًا أن هذه الظاهرة تواجدت حتى في عهد أنبياء الله على الأرض، وأرجع ظهور الإلحاد بنبرة عالية في الآونة الأخيرة لوجود وسائل التواصل التي أججت الرغبة في التمرد على الواقع وأكد أن الإلحاد لم يظهر لأسباب عقائدية أو لضعف الحجج في الدين، ولكنه برز نظرًا للواقع المؤلم ودكتاتورية بعض الحكام أو تطرف بعض الجماعات أو ظلم بعض الأشخاص مما خلق تصورا خاطئا لدى البعض بأن هذا كله بسبب الدين وأن الإله سبحانه جل في علاه ظالم ودكتاتور، وأكد عبد الجليل أن الإلحاد في مصر «موضة» ورغبة في التحلل من القيم والرابطة الأسرية والمجتمعية والدينية، وأضاف أن هذه الموضة تذكره بظاهرة عبادة الشيطان التي ظهرت في التسعينيات من القرن الماضى، ولمواجهة هذه «التقليعة» أكد أولًا ضرورة بث الاطمئنان لدى المجتمع بعدم خطورة الظاهرة وأشار إلى أن ظهور بعض الأشخاص الذين يعلنون إلحادهم لا يعنى أن المساجد والكنائس والمعابد والأخلاق قد هدمت، وشدد على ضرورة التأكيد أن الله غنى عن كل عباده، وأشار إلى ضرورة تعليم أبنائنا أن الإله ليس كما يصوره البعض بأنه دموى وظالم، فالله يمثل كل شىء عظيم في كونه سبحانه وتعالى، مؤكدًا أهمية معرفة الشباب للخالق حق المعرفة حتى يمكن تحصينهم من أي أفكار مغلوطة، فضلًا عن ضرورة إحياء الضمير في نفوسهم منذ الصغر وزرع في نفوسهم مفهوم حب الله بدلًا من الخوف منه، كما أكد عبد الجليل أن الفساد الأخلاقى والسلوكى وظاهرة الإدمان وكذلك الإرهاب يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بالإلحاد ولا بد أن تتكاتف الدولة بكل مؤسساتها الإعلامية والدينية والثقافية والأمنية لمواجهة هذه الظواهر للحد منها ومواجهتها، وذلك بالتزامن مع وضع خطة حقيقية لتطوير العملية التعليمية وإحياء الضمير وتعليم الدين وهو ما سيخلق في النهاية شابا مستقيما لن يتأثر بأى فكر شاذ.
No comments:
Post a Comment