من شأن ميزان الحوادث والأخلاق استجلاء الدوافع الحقيقية التي قامت عليها الدولة الأموية، ومن شأن هذا الميزان أن يقصي خلفاءها عن مصاف المنظومة التي قامت عليها الدولة الإسلامية بما تقتضيه الرسالة المحمدية؛ ورغم الفتوحات العديدة على يد خلفاء بني أمية، حيث توسعت بفتح إفريقيا والمغرب والأندلس والسند وما وراء النهر، فامتدت من أطراف الصين غربًا إلى جنوب فرنسا شرقًا، فإن ميزان الحوادث والأخلاق يؤكد أيضًا أن الغيرة الدينية لم تكن الدافع لكل هذه الفتوحات، ولكن كانت الذاتية باعثها الأول ثم مصلحة البيت الأموي.
لم يكن حلم الزعامة لدى معاوية صادرًا عن نزعة غلابة في الطبيعة والتكوين بقدر ما كان تقليدًا وراثيًّا  يقتضي السيادة والتمكين لبني أمية، فلم ينفرد معاوية وحده عن بقية عشيرته بهذا الهدف، بلى، فإنه انحدر إليه في الأساس من أجداده الأولين، قبل الدعوة الإسلامية، فقد كان للهاشميين نفوذ ملحوظ في الشام حيث تغشى أسواقَها قوافلُ الحجاز، تحت حراسة هاشم بن عبد مناف، فلم يمنع رجحان الهاشميين أميةَ من استراق النظر إلى الرئاسة، ودب بينه وهاشم الخلاف والتنافر حتى تنافسا على الرئاسة، فاحتكما إلى الكهان كما العادة، فرجَّح الكهان هاشمًا على أمية، وكان للغالب حق إجلاء المغلوب عن مكة عشر سنين، قضاها أمية في الشام، وبعد موت هاشم آل اللواء إلى بني أمية لحماية القوافل التجارية بعد وفاة هاشم؛ لانشغال بنيه بالرئاسة الدينة إلى جوار الكعبة. 
وقد صرح بنو أمية باكرًا بطمعهم في الملك، فعندما بويع أبو بكر بالخلافة، بعد وفاة الرسول “صلى الله عليه وسلم”، تكبروا على العمل تحت ولايته وقالوا: نحن أبناء بني أحيحة لا نعمل لأحد بعد الرسول أبدًا”، وهذا كفيل بالإبانة عن نظرتهم للخلافة على أنها ملك وسيادة لابد منهما عبر أي وسيلة، وقد أسند عمر إلى معاوية ولاية الشام، وأبقى عليه عثمان بن عفان إبان خلافته، بل عهد إليه بباقي الشام، أقاليمها من الجزيزة إلى شواطئ بحر الروم، وقتل عثمان وكان لمعاوية في ولاية الشام عشرون سنة، استبقى فيها من يواليه واستبعد من يعصيه ويخالفه، ولما كان أهل الشام يشكونه إلى عثمان فيقول إنه لن يخلع من ولاه عمر، فقال له علي، كرم الله وجهه، بشأن ذلك: “نعم، لكن معاوية كان أطوع لعمر من غلامه يرفأ”.
وبحيل شتى وضع معاوية يده على موارد  في الشام كفيلة بالقيام بأعباء دولة كاملة، وعمل على أن تقوم الشام وحدها مملكة مستقلة بملك مستقل، وبمقتل عثمان وانشطار الدولة الإسلامية قسمين، استقل معاوية بالشام دون منازع.
وقد قامت دولة معاوية على التفرقة بين الجميع، ومن العشائر والطوائف ما سكن عجزًا عن معارضته، ومنهم من استمر يناوئ، فلم تقتصر خطته على ضرب خصمه بعضهم بعضًا فحسب، حيث كان يضرب الخوارج بالشيعة والشيعة بالخوارج، وكذلك العشائر العربية يقرِّب منها ما يقرب، ويقصي ما يقصي، وطالت خطته الأمويين أنفسهم من غير البيت السفياني، فحرض سعيد بن العاص على هدم بيت مروان كما تقدم، وحث مروان على هدم بيت سعيد، وأغرى أبناء عثمان بالمروانيين، وحض المروانيين على أبناء عثمان، وفرَّق أيضًا بين جنوب الجزيرة وشمالها، بين اليمانية والقيسية، بمنح حسان بن مالك سيد القحطانيين الحق في صدارة المجالس اليمانية، ثم ضاعف الأجر لهم ولمن اصطفاهم من حزبه ومنحهم حق التوريث، وفرق بين العرب والموالي، ونكل بالموالي حتى كاد يقصيهم من مناصب الدولة أو الإقامة في عواصمها، وكذلك فعل بأهل الشام حين استخلص لنفسه فرقة منها نقل إليها طوائف شتى من غير أهلها؛ مثل طوائف الزط والسيابجة من البصرة، ونقل إلى الأردن وصور طوائف من الفرس والموالي، وكذلك نقل إلى أنطاكية أساورة الموانئ بالعراق، فخلط العرب بالعجم، ولما لم يستطع أن يستخلص قبيلة بني كلب كلها استخلص منها أخوال يزيد ليصبحوا بعد ذلك فريقين: أحدهما يدعو إلى خالد بن يزيد والآخر يدعو إلى مروان.
أجل.. فرغم انخراط العشيرة الأموية في الإسلام، إلَّا أنها ظلت فيها من بقايا الوثنية، التي تغلِّب النفع العاجل، وتقبل المعاذير طالما كانت لصالح السلطان والنفوذ، حيث لم تناصر الدولة الأموية الرسالة المحمدية بقدر ما ناصرت أهدافها الشخصية ومنافعها الفردية، فرجحت المصلحة الزائلة على الخالدة، وقدموا المنفعة على الفضيلة، وهو بعينه زيغ البصر والبصيرة الذي يعفيها من كلفة الاعتراف بمجد السابقين عليها، والنعرة العصبية التي لا تني تتخذ من اتباعها هذه الرسالة حيلة سياسية تمكنها في الأرض.
استقرت الأوضاع إلى معاوية بن أبي سفيان، بعد نزاعه مع علي كرم الله وجهه، وقتاله ضد الإمام في واقعة صفين، وعندما أشرف على الهزيمة، وأيقن سوء العاقبة لجأ إلى حيلة رفع المصاحف للاحتكام إلى كتاب الله، وكذلك كانت المطالبة بدم عثمان بن عفان حيلة للتحريض على علي، ووفرت هذه الحوادث ـ التي لعبت فيها السياسة والأقدار دورًا كبيرًا ـ على معاوية أشواطًا فساحًا من الصراع والنزاع، واستغل بذكائه المتوقد الحاد ما كان يدور بين المسلمين من خلافات حول اختيار من يتولى الحكم، وما يتبعه من اضطراب وفوضى، فراح ينادي بالنظام الوراثي، بحجة أن يتقى به اندلاع الخصومات والتفرقة بين قبائل المسلمين في اختيار الحاكم، وكثف جهوده شاحذًا هممه على أن يولي يزيدًا ابنه من بعده الخلافة ليحول مسارها إلى نسله، فالأسباب والبواعث وإلى جانبها الروايات والحوادث من شأنها تقدير النيات وتفنيد المزاعم.
لكن ما دبر له معاوية لم يكن كفيلًا بتفادي الصراع المنتظر على خلافته بعد وفاته، إذ تأججت نار الحرب بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، فعرض مسلمو الكوفة على الحسين أن يبايعونه للخلافة على أن يتخذ من الكوفة مقرًّا لها، وخرج الحسين من مكة قاصدًا الكوفة ومعه بعض أتباعه، لكن جيش يزيد بقيادة عبيد الله كان له وأتباعه بالمرصاد، وعلى بعد خمسة وعشرين ميلًا خرج جند يزيد، فرأى الحسين أن يسلم، لكن أتباعه أصروا على  القتال، وكانت حادثة كربلاء الشهيرة، التي قُتل فيها الحسين ومن معه، وحملت رأسه إلى الكوفة، وخلد الشيعة في كربلاء ذكراه ومجدوها بمشهد عظيم من الحزن والتأسي، ولم يخمد الصراع، فقد ثار عبد الله بن الزبير على يزيد أيضًا، لكنه حوصر في مكة، وطالت الحجارة التي تقذفها مجانيق يزيد فناء الكعبة، حتى تناثر الحجر الأسود ثلاث قطع.
تمثلت انتصارات الأمويين في أمجاد شخصية وبطولات فارغة مقامة على تلال من الخرائب، فاتخذت من الدولة الإسلامية وسيلة لتحقيق مرامها، لتؤكد أنها العدو اللدود المغتصب للخلافة في ثوب الصديق الصدوق الذي يرفع راية الإسلام وينكس رايات الأعداء، ولكن من الراجح، بحسب تخطيط الرءوس المدبرة في بني أمية،  أن ما حدث ليس اغتصابًا للخلافة بحال من الأحوال، وإنما استردادًا للزعامة والسيادة، فنحن إذن بصدد مخطط نفذ بحبكة مدهشة ودقة متناهية، وصبر ومكر لا طاقة لغيرها عليهما، باتباع الرسالة تارة والعزوف عنها تارة أخرى، والمسالمة حينًا، والقتال حينًا آخر.
إن ما ذكره الرواة من محاسن الدولة الأموية صار محفوفًا بالريب والشكوك، إذا وضعنا في اعتبارنا أن معاوية أمر بسب علي بن أبي طالب على المنابر، فكيف بمن يأمر بسب الإمام علي وآل البيت ألَّا يأمر بالثناء على شخصه وذكر خلافته بالمحاسن؟! ولا نكران أن ما أغدق به معاوية على من يرتجيهم من الأعوان جعل من قلب الحقائق لصالحه أمرًا يسيرًا، فقد أنفق معاوية أموالًا باهظة في هذا المضمار؛ ليفيد بهم في هذا الصراع الناشب بينه وعلي كرم الله وجهه، حتى نفدت خزائن الدولة، واضطر إلى مضاعفة الضرائب والمكوس.. غير أن السيوطي قد ذكر في كتابه “تاريخ الخلفاء” عن الإمام بن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية فقال: “كان علي كثير الأعداء، فبحث أعداؤه عن عيب له فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيادًا منهم لعلي”.
وعلى النحو الذي اتخذه معاوية منهاجًا في الخلافة من التحلي ببذح الهرقلية والكسروية، ليكون من القياصرة والشواهين، سار من بعده الخلفاء على هذا المنوال، ولا سيما يزيد بن معاوية ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد الذين أضافوا إلى تلك المظاهر البراقة ألوانًا جمة من  المحرمات، باتباعهم السياسة الجالسة، حيث كانت قصورهم حافلة بمجالس اللهو العربدة فضلًا عن الخمر، وقد تجلى ذلك فيما كان ينظمه يزيد بن معاوية والوليد بن يزيد من شعر، فقد كشف فيهم عن نزعة إلحادية قد تختلف في شكلها ومظهرها، لكنها تتفق في مضمونها وفحواها، وهو ما سنعرض له لاحقًا.