ملحدون خلف القضبان.. محاكم تفتيش غير دستورية
أيدت محكمة جنح مستأنف إدكو، الأسبوع الماضي، الحكم بحبس كريم أشرف محمد البنا، ثلاث سنوات، في القضية رقم 3954 لسنة 2014م إداري مركز إدكو، المتهم فيها بازدراء الأديان، وترديده عبارات من شأنها «تحقير الذات الإلهية».
لم يكن «البنا» أول من جرى الحكم عليه بتهمة «ازدراء الأديان»، فمنذ ثورة 25 يناير 2011، تم الحكم على عشرات الشباب بالحبس والغرامة، وهو ما يفتح الباب مجددًا حول تعامل الدولة مع «الملحدين».
«25 يناير»
البداية كانت في ميدان التحرير، وتحديدًا عقب تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك في 11 فبراير 2011، حيث هتف الداعية الإسلامي صفوت حجازي «الله أسقط النظام»، وهو الهتاف الذي ردده أنصار التيار الإسلامي أكثر من مرة بعد ذلك، فرد عليه شاب «الشعب وحده أسقط النظام»، الأمر الذي أعطى مؤشرًا بأن هناك فئة جديدة بدأت تُعلن عن نفسها.
«لا يمكننا الإيمان بإله يود أن يُمجَّد طوال الوقت»، شعار رفعه عدد من الشباب قبل ثورة 25 يناير، لكن ديكتاتورية نظام «مبارك» منعتهم من المجاهرة بإلحادهم، فقط كانت المدونات هي الطريق الوحيد لنشر أفكارهم، ومثلّت الثورة «الضوء الأخضر» للإعلان عن أفكارهم بحرية وجرأة.
الترويج للإلحاد عبر الإنترنت
عبر موقعي التواصل الاجتماعي «فيس بوك» و«تويتر»، انطلق الملحدون عقب الثورة يُعبرون عن أفكارهم، ويتصدون لكل من يهاجمهم، وانتشرت الصفحات التي تُروج للإلحاد، أشهرها «الإلحاد هو الحل»، و«ملحدون راديكاليون بلا حدود»، و«ملحد منطقي».
تدريجيًا، انتقل الملحدون من العالم الافتراضي، إلى شاشات التليفزيون، فرغم تحفظ غالبية الملحدين على عدم الإعلان عن أنفسهم، إلا أن قلة أعلنت عن نفسها، ودخلت في مناظرات مع عدد من رجال الدين في برامج حوارية، في الوقت الذي كانت تعتبر فيه مناقشة التعاليم الدينية من الموضوعات الحساسة في الدولة الإسلامية.
لم يكن «فيس بوك» فقط، هو المنبر الإعلامي الذي يحاول الملحدون من خلاله الترويج لأفكارهم، إذ اتجه الشاب إسماعيل محمد، لتأسيس برنامج «البط الأسود»، على موقع «يوتيوب»، وهو الاسم الذي اختاره إسقاطًا على النظرة التي يرى بها المجتمع الشخص الملحد، حيث يراه كأنه «بطة سوداء وسط البط الأبيض».
وخلق «إسماعيل» من خلال البرنامج مساحة للملحدين واللادينيين للتعبير عن معتقداتهم بكل حرية.
ولم يكتف الملحدون بالإعلان عن أنفسهم، بل طالبوا عقب ثورة 30 يونيو، بمطالب معينة في الدستور، منها أن ينص على حق إيجاد قانون مدني للأحوال الشخصية للملحدين، وأن يتم تفعيل الزواج المدني.
ومن المحاولات الإعلامية الأخرى، إصدار مجلة إلكترونية باسم «أنا أفكر»، كان مقالها الرئيسي في عددها الأول «لماذا نعادي التدين؟».
تنص المادة (64) من الدستور المصري على أن «حرية الاعتقاد مطلقة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون»، فيما تنص المادة (65) على أن «حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر».
الملحدون في المحاكم
لكن الواقع يقول غير ذلك، فبحسب تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فإنه في عامي 2011، و2012، جرى محاكمة 63 شخصًا بتهمة «الإساءة إلى الأديان»، وكانت أبرز الأحكام، السجن 6 سـنوات لسكرتير مدرسـة علـى خلفيـة نقـاش ديني بمحافظة أسيوط، وسـجن مــدرس مسـيحي بمحافظة سوهاج 6 ســنوات لإهانتـه الإسلام، أما القضية الأشهر كانت عام 2012، حيث جرى الحكم على المدون ألبير صابر بالسجن 3 سنوات، بتهمة ازدراء الأديان
لمطالعة حالات وقضايا ازدراء الأديان عامي 2011 و2012
وفي يونيو 2014، قضت محكمة جنح أرمنت بجنوب الأقصر، بالسجن 6 سنوات لـ«كيرلس شوقي عطا الله»، المتهم بازدراء الدين الإسلامي، كما حكمت محكمة جنح ثالث الإسماعيلية، في القضية رقم ٧٤١٩ لسنة ٢٠١٤م، المتهم فيها شريف جابر عبدالعظيم، طالب بجامعة قناة السويس، بازدراء الأديان، بالحبس عام وكفالة قدرها ألف جنيه لإيقاف التنفيذ.
وقبل «جابر»، جرى الحكم على الأديب كرم صابر 5 سنوات، بتهمة «ازدراء الأديان» في مجموعته القصصية «أين الله»، لما تضمنته من «العيب في الذات الإلهية»، حسب حكم المحكمة التي استندت إلى رأي الأزهر الشريف.
يقول إسحاق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إن قانون العقوبات المصري لا يُجرم الإلحاد، والدستور يكفل حرية العقيدة، والمواثيق الدولية أيضًا تنص على أن حرية العقيدة مطلقة، لكن أجهزة الأمن تستخدم تهمة «ازدراء الأديان» لملاحقة الأقليات الدينية، على رأسهم الملحدين.
ويضيف «إبراهيم»، لـ«المصري اليوم»: «في الفترة الأخيرة تم التحريض على الملحدين في الفضائيات، وزارة الشباب أطلق حملة لمكافحة الإلحاد، رغم أن هذا ليس دورها، الأزهر والكنيسة أيضًا ساهموا في الحملة، وهذا أعتقد يجرى لتحقيق أغراض سياسية».
ويُوضح: «قطاعات كبيرة من الدولة مُحافظة، وتأخذ موقفًا إيمانيًا من أصحاب الأفكار المختلفة، كما أن الدولة تُزايد على الإسلاميين، وتريد أن تقول لهم (إحنا أكثر محافظة منكم».
ويُشير إلى أن النظام الحالي لجأ إلى سياسة دأبت الأنظمة السابقة على استخدامها، وهى استخدام الدين لمغازلة مشاعر المصريين ذوي الميول المحافظة، وهو خطاب استدعته الدولة أكثر من مرة، خصوصًا خلال حقبة الرئيس الراحل أنور السادات.
كان اللواء أمين عز الدين، مدير أمن الإسكندرية السابق، أعلن في برنامج تليفزيوني، تشكيل فريق من الضباط المتخصصين لضبط مجموعة من شباب الإسكندرية يروجون لـ«أفكار الإلحاد».
قمع شعبي
لم يواجه الملحدون فقط قمع الدولة، فهناك قمع شعبي، فالشباب الذين أعلنوا عن أفكارهم بجرأة اصطدموا بـ«ثوابت الأمة»، وتعرضوا للاعتداءات بـ«المطاوي والسكاكين».
في يونيو 2014، اعتدى عدد من طلاب الثانوية العامة بمحافظة دمياط على الطالب «إسلام. ح»، «17 سنة»، بالسكاكين والأخشاب، بسبب تركه الدين الإسلامي، وعندما ذهب لقسم الشرطة لتحرير محضر، لاقى معاملة سيئة من أفراد الشرطة، وتم احتجازه لمدة 10 ساعات.
كما ألقى عدد من الأهالي بمنطقة البيطاش بالإسكندرية، القبض على الشاب أحمد حرقان، بعد إعلان إلحاده في أكثر من برنامج تليفزيوني، وسلموه لقسم شرطة الدخيلة، إلا أن النيابة أفرجت عنه هو زوجته، واتهم «حرقان» ضباط مباحث القسم بالاعتداء عليه وضربه هو وزوجته وصديقه داخل القسم وسبهم وتعذيبهم، وتركهم داخل الحجز وتعرّضهم لاعتداء المساجين الجنائيين.
بسبب الملاحقات الأمنية، وقمع المجتمع، لا يُجاهر عدد كبير من الشباب بإلحادهم، ويتحدثون عن أفكارهم في الأوساط القريبة منهم.
«م. ن»، ملحد، منتمي لأسرة مسلمة، مقيم محافظة القليوبية، يقول: «لا تكتف الدولة فقط بالقمع، بل المجتمع نفسه يقمعنا، أنا أخشى الإعلان عن إلحادي، فقط أعلن موقفي للأصدقاء المقربين مني، فأنا لست مستعدًا لأدخل السجن».
لكن الروائي المصري حامد عبدالصمد، المقيم في ألمانيا، والذي تعرض لتهديدات علنية بالقتل على قنوات السلفيين الفضائية، بعد محاضرة ألقاها في القاهرة عن الفاشية الدينية عام 2013، يُفضل مجاهرة كل إنسان بما يعتقده أو لا يعتقده، قائلًا: «الكتمان هو دليل على مرض المجتمع، ولن يضمن تماسكه، فمتى أنقذ النفاق مجتمعًا من التفكك والإنهيار؟.. بالعكس أنا أرى أن النفاق هو مرض المجتمع الأول قبل الأصولية، فالطفل الذي يتربى على الكذب ليرضى أبويه لن يكون فردًاً صالحًا، ولن يضمن تماسك المجتمع.. الملحدون مضطهدون لأن المجتمع يعتقد أنهم قلة قليلة، لذلك من رأيى أنه لو جهر أكبر عدد من الملحدين بإلحادهم فسوف يقللون فرص أضطهاد الملحدين القلائل الذين أعلنوا عن أنفسهم، وعلى المجتمع أن يتعامل معهم بطريقة أخرى غير مبدأ الوصاية والترهيب».
ويضيف لـ«المصري اليوم»: «وضع الملحدين في مصر صعب سواء تحت حكم الإخوان أو تحت حكم أعداء الإخوان، لأن المشكلة ليست فقط في تعامل السلطة مع الملحدين، وإنما في ثقافة الحوار، وفي مفهوم الحرية بصفة عامة في المجتمع».
ويوضح: «لازالت دكتاتورية المزاج العام وثوابت الأمة هي المشكلة، من المفترض أن يكون الفكر حرًا بغض النظر عن مضمون هذا الفكر أو فائدته أو سلبياته، وحرية العقيدة لابد أن تشمل حرية ترك العقيدة، لكننا لازلنا نعيش في مجتمع يُطبق حد الردة معنويًاً حتى ولو لم يطبقه تشريعيًاً وجنائيًاً».
ويتابع: «فكرة حد الردة هي أن المسألة ليست فقط حرية اعتقاد، ولسيت في شخص ترك الملة، ولكنها تعتبر أن من يترك دينه يسبب خلل في الجماعة، ويخون المجتمع، وربما يتحالف مع الأعداء، لذلك يقول الوسطيون (إلحد براحتك لكن احتفظ برأيك لنفسك ولا تجهر به)، لأن الجهر بالإلحاد قد يؤدى إلى البلبلة وتفكك المجتمع، وهذا منطق غريب جدًاً، لأن من يؤمن بالدين لا يحتفظ بدينه لنفسه بل يجهر به بمكبرات الصوت في المساجد والفضائيات والمدارس والجامعات وقبة البرلمان».
ويرى «عبدالصمد»، أن الملحدين فرصة لكى يراجع المجتمع ومؤسسات الدولة الدينية والتعليمية نفسها، متابعًا: «لكن للأسف ما يحدث الآن هو العكس، فبعد أن طالب الرئيس عبدالفتاح السيسى الأزهر بإصلاح الخطاب الدينى، أعلن الأزهر أنه بدأ بالفعل باتخاذ خطوات منها إنشاء لجان لمكافحة الإلحاد، وهنا تكمن المشكلة، فالملحدون قد يساهموا في تطوير الخطاب الدينى وتحريره من عبودية النص أكثر من رجال الدين أنفسهم، لأنهم يتعاملون مع الدين بجرأة شديدة ويطرحون الأسئلة التي لا يجرأ رجل الدين على طرحها».
منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك حتى عهد الرئيس الحالي، يتعامل المسؤولون والمؤسسات الدينية مع «الإلحاد» على أنه مرض عقلي ونفسي، وبأن الملحدين مرضى في حاجة إلى علاج.
الدكتور محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف، يقول إن الإلحاد يشكل خطرا داهما على الوطن والأمة العربية، لأنه يهدد أمنها القومي، والإلحاد صناعة استعمارية تهدد أمننا القومي وتماسكنا المجتمعي، وتعمل على زعزعة استقرارنا تحت اسم (حرية المعتقد).
كما يرى الوزير أن عدم إيمان الملحدين بالله يجعلهم خطرا على المال والأعراض والأوطان، لأن الدين الصحيح يُعزز الوطنية الصادقة، وإذا ارتبطت الوطنية الصادقة بالفهم الصحيح للدين مدت صاحبها بقوة لا تعادلها قوة، وصار العمل لصالح الوطن لديه فريضة دينية ووطنية، فصار على استعداد للتضحية من أجله بالنفس والنفيس.
كما يرى الوزير أن عدم إيمان الملحدين بالله يجعلهم خطرا على المال والأعراض والأوطان، لأن الدين الصحيح يُعزز الوطنية الصادقة، وإذا ارتبطت الوطنية الصادقة بالفهم الصحيح للدين مدت صاحبها بقوة لا تعادلها قوة، وصار العمل لصالح الوطن لديه فريضة دينية ووطنية، فصار على استعداد للتضحية من أجله بالنفس والنفيس.
يقول «م. س»، ملحد، مقيم القاهرة: «الإلحاد ليس مرضًا نفسيًا أو عصبيًا، في الحقيقة إن الإدعاء أن الملحد مريض نفسي اتهام مضحك، وغير جدير حتى بمناقشته؛ لأننا لو اعتبرنا الارتضاء بالعلم فيصلًا في أمور الحياة- والبت في مسائل الوجود الرئيسة- مرضًا نفسيًا لوجب اعتبار جميع علماء الأرض مرضى نفسيين، فضلًا عن أن شروط وأمارات المرض النفسي في الواقع هي أبعد ما تكون عن الملحد، فالملحد لا يدعي أنه يرى كائنات لا يمكن رؤيتها، ولا يدعي أنه يأتيه الوحي أو الإلهام من كائنات تأتي من الفضاء».
ويضيف: «اتهام الملحدين بالمرض النفسي أمر لا يثير أي دهشة لا سيما إن جاء من مؤسسة مثل دار الإفتاء، مؤسسة غير ذات اختصاص في الطب النفسي لتصدر مثل هذا الاتهام المضحك، مؤسسة لا تدرك أن مؤسس علم النفس التحليلي سيجموند فرويد أصلا ملحد».
No comments:
Post a Comment