هل الله موجود أم لا؟
وإذا لم يكن لله وجود حقيقي فمن الذي خلق الكون والإنسان؟
سؤال طُرح عليّ وعلى كلّ لاديني آلاف المرات. بل أزعم أني لم أدخل يوماً في حوار مع متدين إلاّ وكان هذا السؤال حاضراً على الفور عند أول طرح نقدي لمسلّمة من مسلّمات الفكر الديني.
إن مثل هذا الجدل الذي يتخذ من قضية وجود الله محوراً وموضوعاً هو في رأيي جدل بيزنطي ممل لن يوصل إلى نتيجة، بل هو في واقع الأمر جدل تضليلي لا يمس جوهر القضية الدينيّة اصلاً! فالقضية الحقيقة ليست: هل الله موجود أم لا؟ بل هي: هل يتصالح العقل مع النقل أم يتصادم؟ وهل كلّ ما ورد في القرآن وصحيح السنة عقلاني ومنطقي؟ هل التصورات الدينيّة القرآنيّة حقائق أم لا؟
كلّ من يدرس منظومة الفكر الديني بكامل مفرداتها (عقائد وتشريعات) دراسة عقليّة نقديّة متحررة من الأحكام المسبقة والنتائج المقررة سلفاً لا بد أن يلاحظ بسهولة تناقض الكثير من مفردات الفكر الديني مع العقل. وهنا يبدأ العقل في طرح التساؤلات والشكوك، ومن ثمّ تتحول هذه الشكوك إلى إنكار وعدم تصديق للمصدر الإلهي لهذه الأفكار والتصورات الدينيّة. وبالتالي فإن الحوار الطبيعي بين المؤمنين واللادينيين يجب أن يتركز حول هذه الفكرة تحديداً (أي تناقض الأحكام والتصورات الدينيّة مع العقل والعلم والحقيقة)، لكن الغريب في الأمر أن المتدينين يصرّون دائماً على تجاهل هذه الشكوك التي قد تثور حول أحكام الدين ويطرحون فكرة وجود الله وإنكاره محوراً للنقاش!.
أنا اعتبر نفسي لادينياً. ولادينيتي كانت نتيجة قراءة نقديّة للقرآن، فإنتهيت إلى أنّ القرآن وفق منطوقه وأحكامه وتصوراته من المستحيل أن يكون كلام إله. إنّه كلام يعكس عادات وتصورات وأفكار بشريّة عربيّة بدويّة، ومن هنا كان إلحادي وإنكاري للدين.
لكن الغريب في الأمر أنني كلما نقلت شكوكي وتساؤلاتي النقديّة إلى مؤمن وناقشته في مسائل دينيّة محددة: حدّ الردّة، أو سر التفاوت في الميراث بين الرجل والمرأة، أو الخلفيّة الإجتماعيّة الذكوريّة لتعدد الزوجات، أو تاريخيّة تشريع الحجاب، أو المضمون الطبقي للإسلام، أو المصادر اليهوديّة والحنيفيّة للعقائد الإسلاميّة..إلخ؛ كلما حاورت مؤمناً في واحدة من هذه المسائل طرح عليّ محاوري وعلى الفور هذا السؤال: هل أنت مؤمن بأنّ هذا كلام الله أم لا؟ فأقول له: لا، يستحيل أن يكون هذا كلام الله ؛ فيقول لي على الفور: إذن هل تؤمن أصلاً بوجود الله؟ فإذا أنكرت وجود الله تحول مجرى الحوار فجأة إلى الأدلة على وجود الله واستحالة أن يوجد الكون دون موجد وأنّ الآلة الدقيقة لا تعمل دون موجد.. إلى آخر هذا الكلام الممجوج والمستهلك.
ولكن، ما العلاقة أصلاً بين الشكوك التي قد أطرحها حول أفكار دينيّة إسلاميّة بعينها وقضية وجود الله؟ ولماذا يصرّ جميع المتدينين دون استثناء على التهرب من مواجهة النقد العقلي لأفكار وتصورات دينيّة محددة ليثيروا قضية لم تُطرح أصلاً وهي قضية وجود الله؟
في اعتقادي التفسير بسيط:
من الواضح أنّ منظومة التصور الديني (الأحكام – التشريعات – العقائد) تفتقر إلى السند العقلي أو الرصيد المنطقي، إذ من الصعب أن تثبت صحتها بدليل عقلي. وعندما نحاول أن نخضع منظومة التصور الديني إلى موازين العقل ستصدمنا حقيقة التعارض بين مفردات هذه المنظومة ومفاهيم العقل واستحالة التوفيق بين الأحكام الدينيّة ومستجدات الحياة، ولذلك فالوسيلة الوحيدة لضمان امتثال الإنسان لمنظومة التصور الديني هو ربطها بموجود أعلى وخارج عن حدود التصور الإنساني وهو الله لتستمد منه المشروعيّة العقلانيّة.
وبذلك فإن فكرة وجود الله ليست غاية بحدّ ذاتها بل هي في حقيقة الأمر وسيلة لغاية اخرى، وسيلة لإضفاء طابع الشرعيّة العقليّة على منظومة التصور الديني بكامل مفرداتها من عقائد وتشريعات وأحكام وعبادات .. الخ، ولتبرير لا عقلانيتها، أي أنّ الله يؤدي دوراً وظيفيّاً وهو تحصين الأفكار والعقائد والاحكام الدينيّة من النقد والشك في عقلانيتها.
ولذلك، فإن فكرة وجود الله تبرز دائماً كحجة جاهزة ومفحمة للردّ على كلّ من يشكك في صحة التصور الديني، فما أن يبدأ العقل في طرح اسئلة وشكوك حتى يواجه بهذا السؤال: هل أنت مؤمن بالمصدر الإلهي لهذه التصورات الدينيّة؟ وهل تؤمن بوجود الله؟
فإذا كان الجواب : نعم، أنا أؤمن بوجود الله؛ إذن يجب أن تؤمن بصدق مفردات التصور الديني متى ثبت مصدرها الإلهي بدليل التواتر حتى وإن عجز عقلك عن إدراك أسرارها.
أمّا إذا أنكرت وجود الله أصلاً عندها يتحول مجرى الحوار فجأة إلى موضوع آخر لا يمتّ بصلة إلى منظومة التصور الديني التي أثارت في عقلك الشكوك! يصبح موضوع الحوار هو:
هل لله موجود أم لا؟
وإذا كان غير موجود، إذن من الذي أوجد هذه الموجودات؟ ومن أين أتت؟ وما سرّ هذا التناغم والدقة في حركة الكون؟ ..إلخ.
وهكذا ندخل في نقاش عقيم لا علاقة له أصلاً بالأفكار والتصورات والأحكام الدينيّة!.
وهكذا تصبح فكرة وجود الله في واقع الأمر وسيلة ناجحة للتهرب من مواجهة الشكوك والتساؤلات التي تحيط بالتصورات الدينيّة!
بهذه الطريقة يهرب المتدين من الأسئلة والشكوك الحقيقيّة ليصنع مشكلة وهميّة بيزنطيّة ويزجّ خصمه في متاهاته ليخرج في النهاية منتصراً معلناً عصمة الدين!.
أقول وبمنتهى الصراحة والوضوح: ليست عندي أيّ مشكلة مع الله، فسواءً أكان موجوداً أم لا فتلك قضية لا تشغل بالي. ما يهمني حقاً هو: ماذا يريد مني هذا الإله؟ وهل ما يطلبه مني صحيح ومنطقي وعقلي؟ وهل كلّ ما هو مسطور في القرآن وصحيح السنة يعبّر عن الحقيقة المطلقة التي لا تقبل النقد، أو النقاش، أو المراجعة؟
لقد نبذت هذه الأحكام والأفكار والتصورات الدينيّة، واعتبرتها مجرّد عادات وتقاليد بشريّة ألبستها المخيّلة الجماعيّة المتوارثة طابع القداسة.
وأعتقد ان تجاهل الشكوك العقليّة المحيطة بالأفكار الدينيّة وإثارة زوابع حول وجود الله هو مجرّد وسيلة للتهرب من مواجهة المشكلة الحقيقيّة.
ولكن، بماذا يوصف عادة من يتمرّد على هذه الأفكار والتعاليم الدينيّة؟
زنديق! ملحد! مرتد! كافر! جاهل! مارق!
في ظني، لا أهمية كبيرة للوصف.
إذن، هل من يتمرّد على هذه الأفكار يكون مؤمناً بوجود الله؟
مجدداً أقول: لا أهمية كبيرة لمثل هذا السؤال، فسواءً آمن بوجود الله، أم لم يؤمن، فالنتيجة واحدة وهي أنّه يرفض الهوية الدينيّة.. يرفض أن يأسر نفسه بأحكام مسبقة ونتائج مقررة سلفاً. وفكرة وجود الله لم توجد أصلاً إلاّ لتبرير خضوع الإنسان لهذه الأفكار والأحكام، فإذا تمرّد الإنسان عليها فما جدوى إيمانه بوجود الله؟ ألا يصبح (الله) في هذه الحالة مجرّد موجود كباقي الموجودات؟ فسواءّ آمن بوجوده أم أنكره فالأمر سيان!.
ترى هل يُقبل مني أن أؤمن بوجود الله ثمّ أنكر القرآن وأكذّب السنة؟
نعم، أنا لا أؤمن بوجود الله، ولكن إنكاري لوجوده كان نتيجة لدراسة النص الديني دراسة نقديّة عقلانيّة إنتهيت من خلالها إلى أنّ النص الديني هو نص بشري محض لا كلام إله!. ومن العبث في رأيي أن اُناقش في النتيجة بمعزل عن الأسباب والمقدمات.
أعلم يقيناً أنّ هذا المنطق لن يقنع الكثيرين وسوف يظلّون يلاحقوني بهذا السؤال الأزلي: إذن من أين أتيت أنت؟ هل تملك جواباً؟
لا شك أنّ هذا السؤال يأرّق الإنسان منذ الأزل، وكي يريح الإنسان نفسه من هذه الحيرة فقد أخترع وهماً أسمه: الله!.
الحياة لغز غامض لم نفكّ بعد أسراره. نعم أعترف بهذا، ولأكن أكثر صراحة: أنا لا أعرف من أين أتيت، ولا يهمني أصلاً أن أعرف. ما يهمني حقاً هو أن أعرف: كيف سأعيش.
سئل بوذا مرّة: لماذا نعيش؟ فقال: هذا ليس بسؤال.
فقال السائل: إذن كيف نعيش؟ فقال بوذا: هذا هو السؤال!.
ما أكثر ألغاز الحياة (ووجود الإنسان واحد من هذه الألغاز الكثيرة)، وحيرة الإنسان تدفعه للسؤال، وعقله يلحّ عليه يطلب الجواب. يرى الإنسان السحب تجري في السماء، يرى الشمس تشرق وتغرب في حركة منتظمة، يرى أجراماً سماويّة تسقط وتهوي.. ما سرها؟ يصنع خياله تفسيراً لها: (الشمس تذهب فتسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، فيوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها إرجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها)، (والشهب تهوي فوق رؤوس الشياطين المردة الذي يسترقون السمع الى الملأ الأعلى)، (التثاؤب من الشيطان، وإذا سمعتم صياح الديكة فأسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنّه رأى شيطاناً).
وهكذا يرتاح الإنسان، لقد أدرك السرّ، فوراء هذه المظاهر الكونيّة موجود عظيم أسمه الله.
عندما يعجز الإنسان عن التفسير العلمي والعقلي يلجأ إلى الخرافة. وقد أخترع الإنسان إلهه كي يفسر الوجود. لكن الله في واقع الأمر لا يفسرّ الوجود بل يزيد فكرة الوجود تعقيداً! إذ سيظلّ العقل يسأل: إذا كان لكلّ موجود موجد فمن الذي أوجد الله؟ وإذا كان هذا الكون بدقة نظامه وأحكام بنائه يستحيل أن يوجد صدفة وبدون موجد فماذا عن هذا الإله الذي صنع كلّ هذا الكون المعجز؟ كيف أصدق أنّه وجد دون موجد؟ لماذا يفقد قانون السببيّة منطقيته وعقلانيته عنما يصل الى وجود الله ذاته؟
وحتى إذا تجاهلنا هذه الأسئلة فإنّ العقل سيظلّ يلحّ بأسئلة أخرى أكثر تعقيداً مثل: لماذا جئت أصلا؟ ما الحكمة من وجودي؟ وهل الله بحاجة لي؟ وهل هو بحاجة إلى عبادتي؟ وإذا لم يكن بحاجة إليها فلماذا خلقني؟
وربما كان الرهان على الدين هو مسألة وقت، فمنذ قرون خلت عندما كانت معارف الإنسان محدودة، كانت الغلبة للخرافة؛ ومع مرور الأيّام وتتطور العلم تمكن الإنسان من حلّ بعض الألغاز، وتناقصت تدريجيّاً الخرافات. ومن يدري؟ ربما في يوم من الأيّام سيتكمن الإنسان من حلّ هذا اللغز الغامض: من أين أتيت؟ عندها سيموت الله.
No comments:
Post a Comment